سورة الفيل
يقول الله تعالى «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» سورة الفيل
بين يدي السورة
سورةٌ مكية، تذكر أهل مكة بنعمة الله عليهم حين ردّ أصحابَ الفيل بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وكانوا قد جاءوا لهدم الكعبة، فأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول، فواجبٌ عليهم أن يشكروا الله على هذه النعمة وأن يعبدوه، ويؤمنوا برسوله ، كما أنها تذكِّر النبي بهذه الحادثة حتى يصبر على أذى قومه، ويعلم أن الله ناصره وجاعلٌ العاقبة له
تفسير الآيات
قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ» أي ألم تعلم فالرؤيةُ هنا رؤيةُ البصيرة لا رؤية البصر، إذ أنّ النبي في أرجح الأقوال وُلد عام الفيل، فلم ير بعينه كيف فعل ربه بأصحاب الفيل، وقوله تعالى «أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ» يعني أنه تعالى خيب سعيهم، فرجعوا يجرون ذيل الخيبة، ولم يظفروا بشيء مما أرادوا، «وأرسل» الله «عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ» يعني جماعات جماعات، بعضُها في إثر بعض، «تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» أي بحجارة من طين متحجر، لا تصيب أحدًا إلا قتلته، «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» أي كورق الشجر الذي عصفتْ به الريحُ، وأكلته الدواب، ثم راثته
«وكان من شأن أصحاب الفيل أنه كان على اليمن مِنْ قِبل ملك الحبشة رجلٌ يقال له أرياط، وكان معه في جنده أَبْرَهة، فنازعه حتى تفرّقت الجنود عليهما، فانحاز إلى كلّ منهما طائفةٌ، ثم سار أحدُهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط إنك لن تصنعَ بأن تُلْقِي الحبشة بعضها ببعض، حتى تفنيها شيئًا فشيئًا، فابرزْ لي وأبرزُ لك، فأيُّنا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أَنْصَفْتَ، فخرج إليه أَبرهةُ، وكان رجلاً قصيرًا لحيمًا، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط، وكان رجلاً جميلاً عظيمًا طويلاً، وفي يده حربةٌ له، وخَلْفَ أبرهة غلام يقال له عَتْوَدَةُ، يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يَافُوخَةُ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته، فبذلك سمي «أبرهة الأشرم»، وحمل عَتْوَدَةُ على أرياط مِنْ خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط، فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن غَضِبَ غضبًا شديدًا على أبرهة وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدعُ أبرهة حتى يطأ بلاده ويجزّ ناصيته، فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابًا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكلٌّ طاعته لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضْبَطَ لها وأسوسَ منه، وقد حلقتُ رأسي كلّه حين بلغني قسم الملك، وبعثتُ إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه فيّ، فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن
ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْسَ بصنعاء، كنيسةً لم يُرَ مثلها في زمانها بشيءٍ من الأرض، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبْن مثلها لملكٍ كان قبلك، ولستُ بمنتهٍ حتى أَصْرِفَ إليها حجّ العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجلٌ من كنانة، فخرج حتى أتى «القُلَّيْسَ» فقعد فيها أي أحدث فيها ثم خرج فَلِحق بأرضه، فأُخبر أبرهة بذلك فقال مَن صنع ذلك ؟ فقيل رجلٌ من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب، لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا غَضِبَ، فجاء فقعد فيه، أي أنه ليس لذلك بأهل، فغَضِبَ أبرهةُ عند ذلك، وحلفَ ليسيرنّ إلى البيت حتى يَهْدِمَه، ثم أمر الحبشة فتهيأتْ وتجهزّت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعتِ العربُ بذلك فأعْظموه، ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج إليه رجلٌ كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يُقال له ذُو نفرٍ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفرٍ وأصحابه، وأخذ أسيرًا، فلما أراد أبرهة قتله قال يا أيها الملك لا تَقْتُلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من القتل فتركه، وحبسه عنده في وثاق، ثم مضى أبرهة على وجهه حتى أتى خَثْعَمَ، فعرض له نُفَيْلُ بنُ حبيب الخثْعَمِي ومَنْ تابعه من العرب فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذه أسيرًا، فلما همّ بقتله قال له نُفيلٌ أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، فخلى سبيله، وخرج معه يدله، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه رجالُ ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلافٌ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نَبْعثُ معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم، فبعثوا معه أَبَا رِغالٍ، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمَغْمَسِ، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فَرَجَمَتْ قبره العرب، ثم إن أبرهة بعث رجلاً من الحبشة على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال تهامة مِن قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعيرٍ لعبد المطلب ابن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريشٌ وكنانةٌ وهذيل ومَن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حَنَاطةَ الحميريّ إلى مكة، وقال له سَلْ عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قُلْ له إن الملك يقول لك إني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحربٍ فلا حاجة لي بدمائكم، فإنْ هو لم يُرِد حربي فائتني به، فلما دخل حَنَاطَةُ مكة يسأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أقره به أبرهةُ، فقال له عبد المطلب واللهِ ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام، وبيتُ خليله إبراهيم عليه السلام، فإنْ يمنعْه منه فهو حرمه وبيته، وإن يُخَلِّ بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة فانْطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعضُ بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نَفرٍ، وكان له صديقًا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له يا ذا نَفَرٍ هل عندك من غَناءٍ فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نَفَرٍ وما غناءُ رجلٍ أسير بيدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوًا أو عشيًا ؟ ما عندي غَناءٌ في شيء مما نزل بك، إلا أن أُنيسًا سائس الفيل صديقٌ لي، فأُرْسِلُ إليه وأُوصيه بك، وأُعْظِمُ عليه حقّك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال حسبي، فبعث ذو نفرٍ إلى أنيس، فقال له إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عَيْن مكة، يُطْعمُ الناسَ بالسهلِ؛ والوحوشَ في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت قال أفعل فكلّم أنيس أبرهة، فقال له أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، وهو الذي يُطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فائذن له عليك فليكلمك في حاجته، فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أَجَلَّه وأكْرَمَه عن أن يُجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يُجلسه معه على سرير مُلكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه قل له حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه قل له لقد كُنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال له عبد المطلب إني أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربًا سيمنعه فقال ما كان ليمتنع منّي قال أنت وذاك فردّ على عبد المطلب إبله
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في رؤس الجبال، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقال
لا همّ إن العبد يمـــــنع رَحْلَه فامنع رِحَالك
لا يغلبن صَليبهم ومحالُهم عدوًا محالك
إن كنتْ تاركهم وقبــــلَتَنا فأَمْرٌ ما بدا لك
ثم انطلق هو ومن معه من قريشٍ إلى شَعَفِ الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ما أبرهةُ فاعلٌ، فلما أصبح أبرهةٌ تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودًا، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نُفَيْلُ بن حبيب حتى قام إلى الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال ابرك محمود، وارْجع راشدًا من حيث أتيت؛ فإنك في بلد الله الحرام، وأرسل أذنه، فبرك الفيل، وخرج نفيل يشتد حتى أَصَعَدَ في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه فأبى، فأدْخلوا محاجن لهم في مراقِّه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعًا إلى اليمن فقام يُهرْولُ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثالَ الخطاطيف، مع كلّ طائر منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقارِه، وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلّهم أصابتْ وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها ويسألون عن نُفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فجعل نفيل يقول
أين المفر والإله الطالبُ
والأشرم المغلوب ليس الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم ليسقُط انملةً انملةً، كلما سقطت انملةُ تبعتها منه مِدَّةُ تُمَثُّ أي تنزف قيحًا ودمًا، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فَرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون
فلما بعث الله محمدًا كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما ردّ عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ » السورة
اهـ من «البداية والنهاية» لابن كثير، بتصرف
والحمد لله رب العالمين
يقول الله تعالى «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» سورة الفيل
بين يدي السورة
سورةٌ مكية، تذكر أهل مكة بنعمة الله عليهم حين ردّ أصحابَ الفيل بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وكانوا قد جاءوا لهدم الكعبة، فأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول، فواجبٌ عليهم أن يشكروا الله على هذه النعمة وأن يعبدوه، ويؤمنوا برسوله ، كما أنها تذكِّر النبي بهذه الحادثة حتى يصبر على أذى قومه، ويعلم أن الله ناصره وجاعلٌ العاقبة له
تفسير الآيات
قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ» أي ألم تعلم فالرؤيةُ هنا رؤيةُ البصيرة لا رؤية البصر، إذ أنّ النبي في أرجح الأقوال وُلد عام الفيل، فلم ير بعينه كيف فعل ربه بأصحاب الفيل، وقوله تعالى «أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ» يعني أنه تعالى خيب سعيهم، فرجعوا يجرون ذيل الخيبة، ولم يظفروا بشيء مما أرادوا، «وأرسل» الله «عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ» يعني جماعات جماعات، بعضُها في إثر بعض، «تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» أي بحجارة من طين متحجر، لا تصيب أحدًا إلا قتلته، «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» أي كورق الشجر الذي عصفتْ به الريحُ، وأكلته الدواب، ثم راثته
«وكان من شأن أصحاب الفيل أنه كان على اليمن مِنْ قِبل ملك الحبشة رجلٌ يقال له أرياط، وكان معه في جنده أَبْرَهة، فنازعه حتى تفرّقت الجنود عليهما، فانحاز إلى كلّ منهما طائفةٌ، ثم سار أحدُهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط إنك لن تصنعَ بأن تُلْقِي الحبشة بعضها ببعض، حتى تفنيها شيئًا فشيئًا، فابرزْ لي وأبرزُ لك، فأيُّنا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أَنْصَفْتَ، فخرج إليه أَبرهةُ، وكان رجلاً قصيرًا لحيمًا، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط، وكان رجلاً جميلاً عظيمًا طويلاً، وفي يده حربةٌ له، وخَلْفَ أبرهة غلام يقال له عَتْوَدَةُ، يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يَافُوخَةُ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته، فبذلك سمي «أبرهة الأشرم»، وحمل عَتْوَدَةُ على أرياط مِنْ خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط، فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن غَضِبَ غضبًا شديدًا على أبرهة وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدعُ أبرهة حتى يطأ بلاده ويجزّ ناصيته، فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابًا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكلٌّ طاعته لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضْبَطَ لها وأسوسَ منه، وقد حلقتُ رأسي كلّه حين بلغني قسم الملك، وبعثتُ إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه فيّ، فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن
ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْسَ بصنعاء، كنيسةً لم يُرَ مثلها في زمانها بشيءٍ من الأرض، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبْن مثلها لملكٍ كان قبلك، ولستُ بمنتهٍ حتى أَصْرِفَ إليها حجّ العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجلٌ من كنانة، فخرج حتى أتى «القُلَّيْسَ» فقعد فيها أي أحدث فيها ثم خرج فَلِحق بأرضه، فأُخبر أبرهة بذلك فقال مَن صنع ذلك ؟ فقيل رجلٌ من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب، لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا غَضِبَ، فجاء فقعد فيه، أي أنه ليس لذلك بأهل، فغَضِبَ أبرهةُ عند ذلك، وحلفَ ليسيرنّ إلى البيت حتى يَهْدِمَه، ثم أمر الحبشة فتهيأتْ وتجهزّت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعتِ العربُ بذلك فأعْظموه، ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج إليه رجلٌ كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يُقال له ذُو نفرٍ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفرٍ وأصحابه، وأخذ أسيرًا، فلما أراد أبرهة قتله قال يا أيها الملك لا تَقْتُلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من القتل فتركه، وحبسه عنده في وثاق، ثم مضى أبرهة على وجهه حتى أتى خَثْعَمَ، فعرض له نُفَيْلُ بنُ حبيب الخثْعَمِي ومَنْ تابعه من العرب فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذه أسيرًا، فلما همّ بقتله قال له نُفيلٌ أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، فخلى سبيله، وخرج معه يدله، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه رجالُ ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلافٌ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نَبْعثُ معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم، فبعثوا معه أَبَا رِغالٍ، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمَغْمَسِ، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فَرَجَمَتْ قبره العرب، ثم إن أبرهة بعث رجلاً من الحبشة على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال تهامة مِن قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعيرٍ لعبد المطلب ابن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريشٌ وكنانةٌ وهذيل ومَن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حَنَاطةَ الحميريّ إلى مكة، وقال له سَلْ عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قُلْ له إن الملك يقول لك إني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحربٍ فلا حاجة لي بدمائكم، فإنْ هو لم يُرِد حربي فائتني به، فلما دخل حَنَاطَةُ مكة يسأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أقره به أبرهةُ، فقال له عبد المطلب واللهِ ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام، وبيتُ خليله إبراهيم عليه السلام، فإنْ يمنعْه منه فهو حرمه وبيته، وإن يُخَلِّ بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة فانْطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعضُ بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نَفرٍ، وكان له صديقًا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له يا ذا نَفَرٍ هل عندك من غَناءٍ فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نَفَرٍ وما غناءُ رجلٍ أسير بيدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوًا أو عشيًا ؟ ما عندي غَناءٌ في شيء مما نزل بك، إلا أن أُنيسًا سائس الفيل صديقٌ لي، فأُرْسِلُ إليه وأُوصيه بك، وأُعْظِمُ عليه حقّك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال حسبي، فبعث ذو نفرٍ إلى أنيس، فقال له إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عَيْن مكة، يُطْعمُ الناسَ بالسهلِ؛ والوحوشَ في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت قال أفعل فكلّم أنيس أبرهة، فقال له أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، وهو الذي يُطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فائذن له عليك فليكلمك في حاجته، فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أَجَلَّه وأكْرَمَه عن أن يُجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يُجلسه معه على سرير مُلكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه قل له حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه قل له لقد كُنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال له عبد المطلب إني أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربًا سيمنعه فقال ما كان ليمتنع منّي قال أنت وذاك فردّ على عبد المطلب إبله
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في رؤس الجبال، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقال
لا همّ إن العبد يمـــــنع رَحْلَه فامنع رِحَالك
لا يغلبن صَليبهم ومحالُهم عدوًا محالك
إن كنتْ تاركهم وقبــــلَتَنا فأَمْرٌ ما بدا لك
ثم انطلق هو ومن معه من قريشٍ إلى شَعَفِ الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ما أبرهةُ فاعلٌ، فلما أصبح أبرهةٌ تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودًا، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نُفَيْلُ بن حبيب حتى قام إلى الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال ابرك محمود، وارْجع راشدًا من حيث أتيت؛ فإنك في بلد الله الحرام، وأرسل أذنه، فبرك الفيل، وخرج نفيل يشتد حتى أَصَعَدَ في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه فأبى، فأدْخلوا محاجن لهم في مراقِّه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعًا إلى اليمن فقام يُهرْولُ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثالَ الخطاطيف، مع كلّ طائر منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقارِه، وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلّهم أصابتْ وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها ويسألون عن نُفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فجعل نفيل يقول
أين المفر والإله الطالبُ
والأشرم المغلوب ليس الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم ليسقُط انملةً انملةً، كلما سقطت انملةُ تبعتها منه مِدَّةُ تُمَثُّ أي تنزف قيحًا ودمًا، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فَرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون
فلما بعث الله محمدًا كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما ردّ عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ » السورة
اهـ من «البداية والنهاية» لابن كثير، بتصرف
والحمد لله رب العالمين